السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فن الفسيفساء
عرفت بلاد الشام منذ القدم بفنونها العريقة والمتنوعة
وأبدع سكانها الحرفيون في إبراز الملامح بكل أنواعها
التي بقيت أثراً تاريخياً خلاّقاً وتراثاً حضارياً تعتز به وتفخر
وكان من اروع الفنون التي عرفتها فن صناعة الفسيفساء
المحلاة بالألوان السندسية والذهبية والفضية
والتي كانت تزين العمارة الإسلامية وتبرز أناقتها وروعتها
إذ كسيت سقوفها وجدرانها وأقواسها
بلوحات فسيفسائية زادتها إبداعاً وجمالاً.
ويعود العصر الذهبي للفسيفساء إلى الأمويين الذين اهتموا
وخاصة في عهد الخليفة الأموي عبد الملك وولديه الوليد وهشام
بتزيين الأوابد التي أشادوها بآيات الفن من الفسيفساء
ويلاحظ ذلك جلياً في قبة الصخرة التي بناها عبد الملك
وقصر خربة المفجر الذي بناه هشام وقصر المنية
وهي ما زالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا
كما يعود للوليد بن عبد الملك الفضل في تزيين الجامع الأموي الكبير
في دمشق، وكسوته بالفسيفساء، ليكون آية في الفن والجمال
وأعجوبة من أعاجيب الدنيا الخمس في ذلك الزمان
وعلى غراره تم تزيين الجامع الأموي في حلب
ليكون مقارباً لما صار إليه الجامع الأموي الكبير في دمشق.
ولشدة إعجاب سكان دمشق بروعة فسيفساء الأموي وألقه
قاموا بتقليده في تزيين جدران قبة الخزنة
في صحن الجامع الاموي فيما بعد
ثم بتزيين ضريح الملك الظاهر بيبرس في المدرسة الظاهرية
التي تقع في محيط الجامع الأموي بفسيفساء جميل
يعد من أرقى ما صنعه الفنانون الدمشقيون في عمل فني
يرقى إلى مستوى صناعة الفسيفساء في الجامع الاموي
كما أدخل الفسيفساء في كثير من الأعمال الفنية
التي رافقت بناء المساجد في تلك الآونة
ويلاحظ ذلك في جامع تنكز في دمشق
الذي بني في القرن الثامن الهجري
وكذلك في قبة محراب المدرسة الجقمقية
في القرن التاسع الهجري.
فسيفساء الجامع الأموي في دمشق
يمتاز الجامع الأموي في دمشق عن غيره من الجوامع
العربية والإسلامية بكسوته التزيينية الرائعة التي جعلته
آية من آيات الفن والإبداع والجمال.
ولقد أراد الوليد بن عبد الملك أن يجعل من هذا المسجد
آبدة دمشق الخالدة، فأنفق عيله بسخاء كبير
واستقدم كبار أهل الفن والعمارة في الممالك والأمصار
لينفذوا مشروعه العظيم، فتفتقت عبقرياتهم ومواهبهم
وكانت الفسيفساء العنصر الأكثر إبهاراً وإدهاشاً وروعة وفناً.
كما أوعز الوليد برصف جدران الجامع الأموي وأروقته وقناطره كلها
بفصوص من الزجاج الملون، المذهب والمفضض
فغطت الفسيفساء الأقسام العليا من الجامع، في الداخل والخارج
وفي الحرم والأروقة، وكذلك القناطر وباطن العقود
ومع أن أكثرها قد زال بفعل الزلازل والحرائق التي تعرض لها الأموي
فإن ما بقي منها يعتبر ثروة فنية لا تقدر بثمن
ونشاهد آثارها القديمة كم أبدعت في العصر الأموي
في جدار رواق الصحن الغربي وفي دهليز باب البريد
وعلى واجهة المجاز تخللها أجزاء أكملت حديثاً
أحيطت بخط أحمر لتمييزها عن الأصل القديم.
والواقع أن الجامع الأموي بروعة ما أنجز فيه من لوحات فسيفسائية
كان رائعة القرون الوسطى، والسمة المميزة التي بقيت شاهداً فنياً
أكثر روعة وجمالاً من الشواهد الإبداعية التي تحلى بها
الجامع الأموي الكبير في دمشق، والتي كانت من الضخامة
أن رصفت جدرانه بآلاف الأمتار المكعبة بالفسيفساء
وتألقت مواضيعها بكل ما يخطر على بال من مناظر خلابة
ورسوم هندسية بألوانها الطبيعية التي تدهش كل من يشاهدها
لذلك نالت الاهتمام الكبير من الوصف من قبل الكثيرين
من المؤرخين والرحالة والمستشرقين
وكان من أقدمهم الحسن بن محمد المهلبي
الذي زار الجامع الأموي في القرن الرابع الهجري
وقال في وصف فسيفسائه :
(والحنايا والحيطان كلها إلى حد سقفه منقوشة أبدع نقش
بالفسيفساء الملون المدهون والمذهب
يخطف بالفسيفساء، كتب في حائطه القبلي
سور من القرآن الكريم بالفسيفساء المذهب وتضاعيف النقش).
ووصف الفسيفساء أيضاً المؤرخ والرحالة (المقدسي)
في كتابه الشهير (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) فقال :
(وحيطانه إلى قامتين بالرخام المجزع
ثم إلى السقف بالفسيفساء الملونة والمذهبة
في صور أشجار وأمصار وكتابات على غاية من الحسن
والدقة ولطافة الصنعة، وكل شيء أو بلد إلا وقد مثل
على تلك الحيطان وقناطر الأروقة، كلها مرصعة بالفسيفساء).
الأسلوب الفني للتصوير الفسيفسائي
إن استخدام الفسيفساء في تصميم مواضيع الرسوم الجدارية
كان شائعاً في بلاد الشام منذ القدم
لكن الشيء الجديد في هذه الرسوم هو ابتعادها عن الصور الآدمية
لكراهية تصوير الكائنات الحية. لذلك فإن حميع الموضوعات
التصويرية المنفذة في المساجد وفي القصور كانت تقتصر
على مشاهد الطبيعة والعمائر والزخارف النباتية والرسوم الهندسية
ويلاحظ أن أسلوب التصوير سواء أكان تجريدياً أم تمثيلاً للطبيعة
كان أسلوباً واحداً ينتمي إلى مفهوم تصويري واحد يقوم على
مبدأ التحوير في الشكل، وعدم التقيد بالمنظور الرياضي
والنسب البصرية والأبعاد، وأن المواضيع تعتمد على التخيل والذاكرة
هذا الأسلوب في الفن التصويري عُرف في البلاد العربية منذ القدم
واستمر قائماً إلى عهود متأخرة، ونراه واضحاً في فن الترقين
كما يبدو عند الواسطي، وكما نجده في بعض المنمنمات.
ولقد كان التصوير المجرد الذي يعتمد على تأويل النباتات
كالزهرة والورقة، أو الذي يعتمد على الأشكال الرياضية الجوهرية
بداية لما سمي فيما بعد بالنقش العربي (أرابيسك).