نلج من باب الساعة الزمنية لكي ترمي بنا في أحضان سنوات الطبيعة العذراء التي لم تقترف إثم التحضر الصاخب ولم تعرف طعم عبودية التكنولوجيا الحديثة، زمان كانت فيه الحنجرة وسيلة للدلالة على المكنونات بعيدا عن آلات الطرب وهز البطن، حنجرة رافقتها "القصبة" كتوأم لها رسمت بذلك للغناء باللهجة "الشاوية" طريقا سارت عليه الأجيال تباعا ألى حد الساعة، فنان مازال صدى صوته يصل إلى عنان السماء كلما تفقدنا مكتبة الفن الأصيل، تبتهج صفحات مجلتنا فرحا وهي تحتضن ابنا بارا لفنه ولوطنيته من "الأوراس" كان ولايزال صوتا مدويا دوي أول رصاصة ضد الاستعمار، تخاطبت أحرف الأبجدية فيه فيما بينها واتفقت على أن يكون اسما على وزن "عيسى الجرموني".
كانت "سيدي رغيس" بعين البيضاء ولاية أم البواقي سنة 1886 شاهدة على مولود اسمه "مرزوقي عيسى بن رابح" الذي لقب فيما بعد "الجرموني"، طفل صغير تربى في أحضان البادية والطبيعة العذراء، صنعت منه فنانا بقي يلامس قمة الشهرة إلى اليوم بالرغم من السنين الطويلة وويلات الحضارة والتمدن، يحن إليه الكثير ممن عاصروه، فقد كان المؤنس لهم في تلك الفترة سواء للمحب أو العاشق الولهان أو المظلوم، وغيرهم. ولما كان الخلود لله الواحد كانت سنة 1946 نهاية الستين سنة التي عاشها والتي كانت فترة خالدة لفنان نكتب اسمه اليوم في قائمة الخالدين بعطائهم الفني الأصيل، تحن اليه مناطق الأوراس وكل دور الشاوية، والجزائر اليوم ونحن نجوب مكتباتها الفنية والغنائية ورائحة الأصالة تفوح منها، فأف على زمن اليوم الذي طمس معالم أثرية من أمثال "الجوموني" وغيره.
رحل إلى الأبد تاركا وراءه أسطوانات من ذهب لو وزنت إلى جانب فن اليوم لتطايرت من حولها ويكفي "الفوشي" و"عين الكرمة " فخرا لها وهي تجوب بجمالها وأناقة كلماتها بهو الفن الراقي وأصالة فن السراوي.
"الثائر قبل غيره ضد الإستعمار"
قبل الحديث عن حنجرته التي صنعت منه المطرب الأول في الأوراس ، وجب علينا أن نتحدث على شهامته وكبريائه اللذين لم يسقطا أرضا حتى في زمن المستعمر الفرنسي، فقد كان الثائر الأول في زمانه ضد قوانين فرنسا التي حاولت بكل الطرق أن تلطخ ثوب شرف أبناء الجزائر من خلال أطماعها وأن تصنع لنفسها عبيدا في وطن تربى أبناؤه على الحرية يستنشقون هواءها في كل ربوعه، وكان " الجرموني" من بين هؤلاء، كيف وهو الذي فطم على حليب امرأة بدوية كان همها في الحياة شرفها، ومن والد كريم كانت الأرض تهتز من تحت قدميه في طلب الرغيف الشريف،من هذه المدرسة الأبوية اشتق "الجرموني" شخصية الرجل الفذ الذي لا ينحني قده حتى أمام طغاة زمانهم وهم الفرنسيون، ولا تلامس جبهته الأرض إلا للسجود في صلاته لرب هذا الكون، فقال لفرنسا وكان الرد صريحا لن أخدم أمة الاستعمار جنديا أحارب المستضعفين أينما كانوا سواء في الجزائر أو غيرها، ولن أكون سلاحا فتاكا لإراقة الدماء وإن كنت فسوف أكون ضدك يا فرنسا، فلن أكون خادما لك أزرع أنا وتجني انت خيرات هذه الأرض من وراء البحر، فلا خير في أمة تأكل قوتنا وعرق جبيننا وتقتل وتشرد أبناءنا.
وكانت أغنية "الفوشي ذوق مسمار وأكرد انوقير" شاهدة على ذلك
لقد ترجم "عيسى الجوموني" هذا في أغنية مازالت كل الأجيال تتداول كلماتها إلى حد الساعة، وخاصة منهم أبناء الشاوية و الأوراس وصلحت لكل زمان ومكان، بل أصبحت جسرا لحنجرة الكثير منهم للوصول إلى مصاف كبار الأغنية الشاوية بكل طبوعها، فمن أمسك ببريقها فقد أضاء نور دربه ومستقبله في هذا الطابع والأمثلة كثيرة ممن تدرجوا فيها في حياتهم الفنية، كانت تعبيرا عن الفخر والعزة والكرامة ونبذ التسلط وكبت الحريات، فلم يبق حديثه عن ظلم فرنسا محبوسا في داخله، بل عبر عليه علنا وترجم في الكثير من أغانيه على غرار رائعته "الفوشي".
" رعي الغنم صقل موهبته ومن التويزة ذاع صيته"
هو خريج أسرة فلاحية، لم يكن له الحظ في التحصيل العلمي، فقد مارس الرعي مند طفولته بحكم البيئة والأوضاع الإجتماعية التي كان يعيشها، اغتنم فرصة الوحدة في براري الشاوية والأوراس لصقل حنجرته العذبة، فقد تميز بالصوت القوي والإحساس المرهف منذ الصغر جعل منه مغنيا وملحنا ماهرا، فغازل وحدته بأشعار شيوخ زمانه على غرار الشيخ "بوكرسة المكي" و"بوقريرة"، ومن هنا كان الميلاد لحنجرة ولدت في الخلاء لتصبح في يوم ما عالمية جابت كل الأقطار والأوطان دون استثناء، لم يكن يدري أن ما يسمى "بالتويزة" ستكون في يوم من الأيام حبل وصوله إلى الشهرة، فقد استدعي إلى إحداها واقترحه بعض المحبين ليكون المؤنس فيها يداعب بصوته العاملين والحاضرين، فبدأ إسمه يتردد بين الألسنة وذاع صيته وانتشر انتشار الفطريات في الحقول لا يعترف بالحدود، وبدأ يطفو على الأوراس فغرقت مناطقه في صوته الصداح ليمتد إلى كل الشرق الجزائري وكذا الجزائر كلها ومنه إلى العالمية، وأصبح رمزا للأغنية الشاوية وواحدا من أعمدة الفن الأوراسي الأصيل والخالص الذي استمد هويته من طبيعة بعيدة عن الضوضاء التي تعرفها مدارس الفن والطرب في جزائرنا اليوم.
"الحنجرة التي داعبت كل الطبوع ... بمختلف اللهجات"
لقد كان المتميز في فن "السراوي" يداعب قصائده حسب الحاجة طلب جمهوره، فغنى بلسان "الشاوي" و"الأمازيغي" وحتى "بالدارجة" لكي يفهمه كل من يجلس إليه، جاءت مواضيعه في كل الأحاسيس ليغازل الكل دون استثناء، فقد تطرق فيها إلى إحساس الحب وكذا الإنتماء والغربة والوطنية كدعوة للتآخي والترابط مادامت الحاجة إلى ذلك في ظل المستعمر الفرنسي فحق عليه اسم لقب المطرب الشامل في زمانه.
"1937 مفخرة الشاوية والجزائر... وكل الأفارقة"
ستبقي هذه السنة محفورة في أذهان كل الجزائريين وخاصة "الشاوية" كيف لا،وهو اليوم الذي غازل فيها "عيسى الجرموني" ركح الأوبيرا الفرنسية، وكان الأول في هذا على مستوى كل الأوطان في إفريقيا، فقد دوت في كل أركانها بصوت عذب قوي سمعه ربان فرنسا في بواخرهم وهي تتلاطم مع أمواج البحر، صنع مجدا مازال يذكر إلى حد الساعة بين الأفراد والجماعات وكان بحق انتصارا للجزائر ومفخرة لها في تلك الفترة، خاصة ونحن تحت وطأة استعمار فرنسا فخاطبهم "الجرموني" بكلمات مدوية بصوت مدفعي من أعلى قمة عندهم اقشعرت لها أبدانهم، فربما قال الكثير منهم هو تعبير عن حريتهم المهضومة.