هبطت الطائرة بسلام في أرض المطار.. تدافع الركاب في النزول من أجل السبق في عمل إجراءات القدوم ، فتزاحم الركاب في الصالة الداخلية بعد ما عبروا حواجز الجوازات انتظارا لأمتعتهم، وقد تزامن وصول طائرة أخرى مع هذه الطائرة، فاكتظت الصالة بالناس وضاق المكان !
علت الأصوات وتشابكت تحيات القدوم .. والأيدي تلوح بالسلام من بعيد لمن ينتظرون خلف الزجاج، اختلطت صيحات الصغار ما بين الضحك والبكاء ، واختلطت أصوات الرجال ، فصار المكان أشبه بالبحر الذي تتلاطم أمواجه، لا تستطيع أن تميز ما يُقال ....
ترى خطوطاً متباينة على وجوه هؤلاء ـ الرجال والنساء على حدّ سواء ـ تعطيك صورة واضحة عن مدى ما حققوه في رحلتهم، ولو فتشت في دفاترهم لوجدت العجب العجاب، كم من حسنة سجلت لأحدهم؟ وكثير منهم قد وضع على ظهره وزراً أتى يحمله وهو لا يدري.. فإن كان لا يدري فتلك مصيبة.. وإن كان.... ! ترى الكآبة على الوجوه فتعطيك قدراً من سبر ما اقترفت يده وأنامله في الأيام الخالية...
بعض المشاهد تجبرك على التأمل في هذه الصالة، كل له حكاية وهدف ، ويتمايز الناس في ذلك، فبعضهم يحلق في الثريا ، والآخر يأبى إلا النزول في سفح الجبال وموضع الأقدام، والعجيب أنَّ هذا الإنسان قد يجلس عند موضع الأقدام بطوعه واختياره، والأنفس العالية تشدك رغماً عن أنفك لتأملها ..
هذه قادمة من أوربا فتسابق اللحظات لتصل إلى صديقاتها لتروي لهم ما شاهدت هناك، وأخرى تراقب سير الأمتعة وعينها تبحث عن حقيبتها، ففيها تلك الفساتين التي بذلت مجهوداً كبيراً في اختيارها وشرائها مع الهدايا التي أحضرتها، وتلك تحلم بمقدار التميز التي ستحققه في أول مناسبة تحضرها، أما تلك فلها حكاية أخرى..
تأخرت أمتعتي في الخروج وقد حان وقت صلاة العشاء، فقال صاحبي: هيا بنا نؤدي الصلاة في تلك الزاوية المعدة لصلاة المسافر المستعجل ريثما تصل الأمتعة، خرجت من وسط الزحام وأنا أفكر لماذا لم يفطن الناس إلى الصلاة؟ فجاءت الإجابة الفورية لعلهم قد صلوا أو سيصلونها عندما يعودوا إلى منازلهم ـ وهناك فسحة ولله الحمد ـ ولا أكتم سراً أن السعادة قد غمرتني وأحسست بنوع من الطمأنينة لأني سوف أودي الصلاة مع القلة القليلة التي فطنت للصلاة في هذا المكان وهذا الوقت ـ كل ذلك بفضل صاحبي الذي ذكرني. ...
ولكن ما أقسى أن تذهب أحلامك سراباً وأن يسبقك غيرك إلى ما تنوي عمله.. فكم شدَّني ذلك المنظر المهيب الذي أنساني كل أحلامي وآمالي وحتى متاعبي خلال الرحلة الطويلة في الطائرة، وقفت مندهشاً وتسمَّرت في مكاني وأنا الذي ظننت أني الأول الذي يسبق للمصلى؟؟! فتبخرت السعادة وأحاطت بي الإشادة وتملكتني قشعريرة لم أتمالك نفسي، ولولا الحياء لجثوت على ركبتي المرتجفة التي عجزت أن تحملني، امتدت يدي لوجنتي لتمسح دمعة انسابت من عيني وأردت أن أخفيها حياء من الناس، كيف لمثلي أن يبكي بدون سبب...!!
رأيت شيئاً لم أتوقعه.. فما الذي رأيت؟؟ هي يوشحها السواد فلا ترى منها شيئاً والسواد قد أضفى عليها مهابة ووقاراً، تقف بكل خشوع وتذلل وفخر واعتزاز، لم يتسرب إلى قلبها الخجل أو الخوف أو الإحساس بالنقص، مشت بخطوات ثابتة ووقفت بين يدي ربها في زاوية هذه الصالة تؤدي فريضة الصلاة لوحدها، لم تبهر عيونها تلك الأنوار ، أو يشوش على ذهنها الصخب والضوضاء ، أو الخجل والخوف من أن تعير بالتزمت أو التعقيد لصلاتها في مصلى قد أعدّ للرجال، هو الثبات واليقين والهروب من متع الدنيا التي نملكها، حتى في هذه اللحظات التي يسمح بتأجيل الصلاة إلى وقت آخر ، ولكن هي الأنفس ذات الهمم العالية التي تعانق الثريا، فوقفنا برهة حتى أتمَّت صلاتها، وانسلت دون أن نشعر بها.
فلماذا هي كذلك ؟! .. ولماذا لم تكن مثل قريناتها؟! .. وما الذي جعلها تفعل ذلك؟! .. وكم هي المسافة بين قناعاتها وقناعات الأخريات، فيما فعلت؟! .. هل تملك شيئاً لا يملكه غيرها ؟! .. كم يوجد مثل هذه الفتاة في هذا الزمن..؟
هذه أسئلة جالت بخاطري وأنا أقف وسط الزحام مندهشاً مما رأيت، فلم أفق إلا على يد صاحبي وهو يجرني وقد أقيمت الصلاة..
فمتى نذهب بتلقائية وعفوية لنؤدي الصلاة بدون أن نحتاج إلى أحد يجرَّنا إليها؟!