مركز أبحاث ودراسات الأمن القومي.
المصدر: القدس، فلسطين، 31/7 _ 2-4-7 /8/2010
إعداد: شموئيل إيفين* وعاموس جرانيت * * شموئيل إيفين، خبير متخصص في الشئون الأمنية الخاصة بإسرائيل بمنطقة الشرق الأوسط في مركز أبحاث ودراسات الأمن القومي. * عاموس جرانيت، الكاتب المتخصص في الشئون الأمنية الإسرائيلية.
الموساد... رأس الحربة للمخابرات الاسرائيلية
أصدر مركز أبحاث ودراسات الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب دراسة حديثة ومهمة حول دور المخابرات الإسرائيلية في مواجهة المخاطر الإستراتيجية الجديدة التي تتعرض لها إسرائيل خلال العقد المقبل.
وتعد هذه الدراسة واحدة من الكتابات القليلة التي لا تقدم فقط رؤية إسرائيلية للأخطار التقليدية وغير التقليدية التي تواجه إسرائيل، وإنما تتناول تركيبة المخابرات الإسرائيلية وأدوارها وعملياتها السابقة، وتتطرق إلى محاولة استخلاص العبر من أجهزة استخباراتية عالمية أخرى حتى يمكن مواجهة هذه الأخطار.
ولأهمية هذه الدراسة في معرفة اسرائيل وكيف تفكر في الآونة المقبلة، فضلا عن التطرق لموضوع مهم وشائك يخص ملف المخابرات الإسرائيلية، ننشر موجزاً وافيًا لهذه الدراسة على أربع حلقات، الأولى تتحدث عن تركيبة المخابرات الإسرائيلية، والثانية تتناول تجارب الماضي، والثالثة تقدم المخاطر التي تواجه إسرائيل في العقد القادم، ويتحدث الجزء الرابع عن كيفية معالجة أوجه القصور في عمل الاستخبارات الإسرائيلية.
****
الجزء الأول:
ويتعرض هذا الجزء للأعمال المختلفة التي تقوم بها أجهزة المخابرات الإسرائيلية، ويشرح تفصيليًّا المهام القومية الأساسية لها، وتحديد دورها العام كهيئة واحدة، وأشكال التعاون المحدودة فيما بينها. كما يتناول هذا الجزء الهياكل التنظيمية لأجهزة المخابرات الإسرائيلية، مميزاً بين أقواها وأكثرها فعالية، إضافة إلى النوعيات المختلفة للإنتاج المخابراتي الإسرائيلي، وما يساهم به في حفظ أمن الدولة، وصد التهديدات المحيقة بها.
التعريف والمهام
تتعدد أجهزة المخابرات الإسرائيلية وتختلف فيما بينها، وذلك وفق نوعية المهام الملقاة على عاتقها، وحجم الدور الذي تقوم به، إضافة إلى طبيعة المؤسسة المنتمية إليها سواءً كانت عسكرية (الجيش) أو سياسية (وزارة الخارجية) أو أمنية (الشرطة).
ووفقاً للدراسة، يوجد في إسرائيل خمسة أجهزة مخابراتية، وهي:ـ
1- شعبة المخابرات في هيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي "أمان":
يتلخص دورها في إعطاء معلومات استخباراتية للجيش ولوزير الدفاع، وللحكومة، ولجهات رسمية أخرى معنية بالشئون الأمنية والعلاقات الخارجية والإستراتيجية الإسرائيلية، ومن الناحية التنظيمية، يتبع جهاز "أمان" مباشرة لرئيس الأركان، المؤتمر بأمر الحكومة، والتابع بدوره لوزير الدفاع.
وبالنسبة لمهام "أمان" الأساسية، فهي تتمثل في الآتي:
• توفير المعلومات الاستخباراتية اللازمة لمجلس الوزراء الأمني المصغر، وللجيش الإسرائيلي، والتي يمكن من خلالها تقدير قدرات العدو، وفهم دوافعه، وتوقع توجهاته.
• تحذير المستويين السياسي والعسكري من نشوب الحرب، أو شن عمليات إرهابية وعدائية ضد إسرائيل.
• التحذير من تطوير العدو لأسلحة ومعدات قتالية "غير تقليدية"، وتوفير المعلومات الاستخباراتية اللازمة للمساعدة على تحييد هذه الأسلحة.
• عرض معلومات استخباراتية على أصحاب القرار، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، بغرض مساعدتهم للقيام بمهامهم المختلفة.
• توفير معلومات استخباراتية فيما يتعلق بالتسويات السلمية والتوجهات السياسية.
• توفير معلومات استخباراتية للعمليات القتالية – الميدانية للجيش الإسرائيلي، وللأجهزة الأمنية الأخرى.
• تجميع المعلومات الاستخباراتية على اختلاف أنواعها، وعرضها للأغراض الاستخباراتية المختلفة.
• تنفيذ عمليات خاصة.
• تطوير المنظومات والوسائل التكنولوجية.
• تجهيز تقنيات مهنية لأجهزة الاستخبارات الأخرى بالجيش الإسرائيلي.
• دعم مجال الأمن المعلوماتي في الجيش الإسرائيلي.
وبالنظر لهذه المهام، يمكن القول إن الوصف المتعارف عليه لجهاز "أمان" لا يتوافق مع كينونته؛ إذ إنه يعد شعبة "شاذة" داخل الجيش، نظرًا لحجم المهام التنفيذية الكبيرة التي يقوم بها من خلال وحدات جمع المعلومات والبحث، إضافة للمهام التكنولوجية والتنفيذية الأخرى التي يقوم بها، وبالتالي فهو يشبه ذراعاً عسكريًّا (مثل ذراع سلاح الجو) ولكنه ذراع يعمل في مجال المعلومات.
ومع ذلك، فإن "أمان" يعد هيئة عسكرية تقوم بتقديم خدمات وطنية استخباراتية، وصلاحية وجودها الأساسية تتمثل في مساعدة الجيش الإسرائيلي في تنفيذ مهامه، إلا أنه بفضل قدراته الكبيرة في مجال جمع المعلومات، فإنه يقوم بتنفيذ مهام وطنية خارج إطار الجيش، لمساعدة المستويين السياسي والأمني في إسرائيل للقيام بمهامهما.
2- هيئة الأمن العام (الشاباك):
يتلخص دورها في الحفاظ على أمن الدولة، واستقرار النظام الديمقراطي ومؤسساته المختلفة، في مواجهة التهديدات الإرهابية والتخريبية، ومواجهة المؤامرات المختلفة التي تتعرض لها الدولة، والحفاظ على أسرارها العليا، والعمل على تحقيق المصالح الوطنية الحيوية الأخرى للأمن القومي للبلاد، وذلك وفق ما تحدده الحكومة، ووفق ما هو مرتبط بالقانون.
ويخضع "الشاباك" لسلطة الحكومة الإسرائيلية، ويتبع رئيس الوزراء مباشرة، وتتمثل مهامه الأساسية في:
• إحباط ومنع الأعمال غير القانونية، التي تهدف للإضرار بأمن الدولة، واستقرار النظام الديمقراطي ومؤسساته المختلفة. • تأمين الأشخاص والمعلومات والأماكن التي تحددها الحكومة. • تحديد المعلومات السرية الأمنية المتعلقة بالمناصب والوظائف العامة في مختلف الهيئات، وتنفيذ عمليات الفحص الأمني السرية.
• تحديد إجراءات التأمين للأماكن التي تحددها الحكومة.
• إجراء أبحاث استخباراتية وإعطاء استشارات وتقديرات للحكومة وللهيئات الأخرى التي تحددها الحكومة.
• العمل في مجالات أخرى تحددها الحكومة، وذلك بموافقة لجنة الكنيست لشئون الخدمات، والتي تم تشكيلها للعمل على تحقيق المصالح الحيوية للأمن القومي للدولة.
• تجميع المعلومات التي من شأنها تنفيذ المهام السابقة الذكر.
ويوصف "الشاباك" بأنه هيئة أمنية قومية مستقلة بذاتها، ويتشابه مع الجيش الإسرائيلي في كونه مسئولاً عن الحفاظ على أمن الدولة في مواجهة التهديدات السرية؛ إذ إن أساس أنشطته هي "السرية". وعلى هذا الأساس فإنه يعد هيئة استخباراتية قومية نظراً لامتلاكه قدرات في مجال جمع المعلومات والبحث والعمليات الاستخباراتية التي تساعد معظم أجهزة المخابرات الإسرائيلية الأخرى.
3- مؤسسة الاستخبارات والمهام الخاصة (الموساد):
يتلخص دور الموساد في تجميع المعلومات والبحث الاستخباراتي وتنفيذ العمليات السرية الخاصة "خارج البلاد"، وهو تابع لرئيس الوزراء الإسرائيلي مباشرة. وتتمثل أهم مهامه في:
• إحباط عمليات تطوير الأسلحة غير التقليدية في الدول المعادية.
• إحباط العمليات التخريبية ضد أهداف إسرائيلية ويهودية خارج إسرائيل.
• الجمع السري للمعلومات خارج إسرائيل.
• توفير معلومات استخباراتية وإستراتيجية وسياسية نافذة.
• تطوير علاقات سرية "خاصة"، سياسية وعسكرية وغيرها، مع جهات خارجية.
• تنفيذ عمليات خاصة خارج حدود إسرائيل.
• تهجير اليهود من دول تكون الهجرة منها غير ممكنة، وذلك عن طريق مؤسسات الهجرة المتعارف عليها في إسرائيل. ويعد الموساد هيئة استخباراتية قومية، ويختلف عن "أمان" في كونه – أي الموساد- هيئة مستقلة بذاتها، ويختلف عن "الشاباك" في كون مهامه ليس بها مسئوليات محددة فيما يتعلق بالأمن القومي، ولكن تتمثل مسئوليته في كونه ذراع عمل سري خارج البلاد، وتنفيذ مهام تلقى على عاتقه من جانب رئيس الوزراء مباشرة. وتسهم قدرات الموساد المختلفة في عمل أجهزة المخابرات الإسرائيلية الأخرى، ومع ذلك فإن بلورة هويته كهيئة مستقلة أدت أكثر من مرة لحدوث "احتكاكات" مع أجهزة المخابرات الأخرى.
4- مركز الأبحاث السياسية بوزارة الخارجية (مماد):
تتلخص مهامه في مجال وضع التقديرات السياسية فقط، على أساس المعلومات التي يحصل عليها من الممثليات والسفارات الإسرائيلية في الخارج، ويعد هذا المركز هيئة صغيرة جدا مقارنة بأجهزة المخابرات الإسرائيلية الأخرى، وإنتاجه يكون مخصصًا لوزارة الخارجية فقط، ومع ذلك فإن ممثليه يشتركون في المناقشات الخاصة بوضع التقديرات الاستخباراتية القومية في الحكومة، حيث يقدمون اسشتاراتهم وتقديراتهم المختلفة.
5- مخابرات الشرطة الإسرائيلية:
تقوم الشرطة الإسرائيلية بأعمال استخباراتية كثيفة في إطار شعبة التحقيق والاستخبارات وعدد من الوحدات الخاصة في المحافظات الإسرائيلية المختلفة. وتقوم المنظومة الاستخباراتية في الشرطة الإسرائيلية بجمع المعلومات ووضع التقديرات البحثية والقيام بعمليات خاصة، بهدف مساعدة الشرطة على تنفيذ عملياتها في مجال مكافحة الجريمة وحفظ النظام العام، وتنفيذ مسئولياتها في مجال الأمن الداخلي. ويعد هذا الجهاز مسئول أيضا عن بلورة صورة استخباراتية عامة لأصحاب القرار عن الأوضاع الداخلية، وكشف الجرائم الجنائية وإحباطها، وجمع الأدلة بطرق سرية.
نوعية الإنتاج
تختلف "نوعية" إنتاج كل جهاز استخباراتي إسرائيلي عن غيره، وفق المحددات التي يعمل في إطارها، إلا أنه يمكن التمييز بين ثلاث حزم أساسية لنوعية الإنتاج الاستخباراتي الإسرائيلي، في ضوء المهام التي تقوم بها؛ حيث تتمثل هذه النوعيات في:
1- المعلومات الاستخباراتية اللازمة لبلورة السياسات العامة واتخاذ القرارات المصيرية: وذلك فيما يتعلق بالمستويات الإستراتيجية السياسية والعسكرية؛ فالمخابرات تقوم ببلورة الواقع السياسي والإستراتيجي أمام أصحاب القرار لمواجهة التهديدات المختلفة، لاسيما المتعلقة بحجم القدرات العسكرية للأعداء.
2- المعلومات الاستخباراتية اللازمة لتفعيل تكتيكات القوات الأمنية والعسكرية: مثال جمع معلومات دقيقة حول مواقع القيادة وأماكن نصب الصواريخ للعدو، بشكل يسهل من قصفها، أو جمع معلومات دقيقة تمكن قوات الجيش والشرطة الإسرائيلية من إحباط هجمات إرهابية واعتقال المتورطين فيها. 3- تنفيذ عمليات قتالية وإحباط الأعمال العدائية: مثال تنفيذ هجمات سرية على الأسلحة غير التقليدية للعدو، وإحباط المؤامرات ضد الدولة، وإفشال الأعمال التجسسية للعدو. ومن خلال هذه التقسيمات السابقة، من الممكن تمييز العمل الاستخباراتي الإسرائيلي، من خلال تقسيمه إلى مستويين أساسيين، وهما:
أ- مهام استخباراتية "كلاسيكية"، وهي المهام التقليدية التي من المفترض أن تقوم بها أي أجهزة استخباراتية في العالم. ب- مهام استخباراتية "فعالة"، بمعنى استخدام المخابرات كـ"مقاتل" مشارك في الحروب.
المخابرات كمقاتل
كما تعد عملية "إعداد المعلومات الاستخباراتية الأمنية "القومية"، إحدى أهم نتاجات المخابرات الإسرائيلية؛ فمن المنوط بها إعداد معلومات استخباراتية قيمة، متعلقة بالمناخ الإستراتيجي المحيط بإسرائيل، وتقوم بتقديمها للمستوى السياسي من أجل بلورة واتخاذ القرارات في مجال الأمن والسياسات الخارجية، ومن المهم أن تتمحور هذه المعلومات حول المخاطر الآنية والمستقبلية المحيقة بإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، كما يجب ألا تتعرض هذه المعلومات للأوضاع الداخلية في إسرائيل.
وتعرض هذه التقديرات أمام الحكومة الإسرائيلية مرة واحدة في السنة على الأقل، وتعرف بـ"التقديرات السنوية للمخابرات الإسرائيلية"، في حين أن استحداث هذه التقديرات وما يتعلق بالقضايا المطروحة بها تطرح على رئيس الوزراء بشكل متتابع خلال السنة، سواء من خلال الوثائق المخابراتية أو من خلال التقارير أو من خلال وسائل أخرى بديلة.
ويعد "أمان" بمساعدة أذرع استخباراتية أخرى هو "الدينامو" الأساسي داخل منظومة المخابرات الإسرائيلية فيما يتعلق باستخلاص ووضع التقديرات الاستخباراتية، لكونه الهيئة الوحيدة التي تقوم ببحث كل عناصر التقديرات الاستخباراتية؛ مما يؤهله للقيام بعملية "فلترة" لها، وتقديم تقدير استخباراتي قومي شامل، في حين أن الوحدات البحثية في الأجهزة الاستخباراتية الأخرى تقوم بوضع تقديرات استخباراتية في مجالات أخرى، غير متعلقة بما يقوم به "أمان"، إلا أنه في جزء منها يوجد ارتباط بين كافة المجالات البحثية في كافة الأجهزة الاستخباراتية.
الإدارة وحجم التعاون
لا توجد لأجهزة المخابرات الإسرائيلية جهاز إداري مركزي موحد يقوم بالتخطيط والتوجيه لأنشطة المخابرات؛ فمن الناحية التنظيمية يعمل كل جهاز بمفرده، كما أن جميع الأجهزة ليس لها خطة عمل مشتركة، ولا ميزانية مشتركة، ولا تراقبها جهة عامة.
فكل جهاز مخابرات له وحداته وهيئاته المستقلة بذاتها، وهي تنقسم إلى:
1- هيئات بحثية خاصة تتلخص مهماتها في البحث وتجميع المعلومات.
2- أجهزة تنفيذية تقوم بشن عمليات سرية ضد الأعداء، وذلك بالاستعانة بما تقوم به أجهزة جمع المعلومات.
كما يوجد بكل أجهزة المخابرات وحدات تكنولوجية، وبنية أساسية وهيئة موحدة تمكن الجهاز من العمل بشكل أوتوماتيكي.
وفيما يتعلق بالهيكل التنظيمي والإداري لأجهزة المخابرات الإسرائيلية، تجدر الإشارة إلى أن جهاز "أمان" يعد أكبر جهاز استخباراتي إسرائيلي من بين جميع الأجهزة الأخرى، كما أنه الأبرز في قوته من بين بقية الأجهزة في مجالات (التنصت) و(التقاط الصور الجوية)، و(البحث والمهام الخاصة).
أما جهازي الموساد والشاباك فلهما تميز أكبر في المجال البشري، أي (تجنيد العملاء وإجراء التحقيقات مع الجواسيس)، والعمليات الوقائية والتنفيذية الخاصة بهما، وفي حين أن الموساد يتسم بـ"ديناميكية" خاصة فيما يتعلق بالعمليات السرية خارج البلاد، فإن الشاباك يتميز بهذه الديناميكية في العمليات داخل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل.
وعلى الرغم من عدم وجود جهاز مركزي يدير كل أجهزة المخابرات الإسرائيلية، إلا أنه توجد مجموعة من المجالات التي تتعاون فيها جميع الأجهزة، وهي:
1 ـ تعاون محدود بين رؤساء الأجهزة: وهو متأثر بشكل كبير بالمصالح المشتركة لكل جهاز مع الآخر، وهو قائم على قاعدة من الجدية؛ إذ لا يوجد جهاز يلزم بهذا التعاون، ما يعني ضعفه، وعلى سبيل المثال يمكن لرؤساء هذه الأجهزة بناء قدرات لتلك الموجودة في أجهزة استخباراتية أخرى بالعالم، لكن الأمر تعترضه الكثير من المشاكل أهمها الاحتكاكات التي تحدث بين رؤساء الأجهزة.
2 ـ لجنة رؤساء الأجهزة المخابراتية: يشترك في هذه اللجنة أيضا السكرتير العسكري لرئيس الوزراء، ويهدف اجتماع اللجنة لتبادل آخر المستجدات في مجال العمل المخابراتي، واستخلاص الفكر المشترك، والتنسيق في مجالات ذات الاهتمام المشترك ذات البعد الإستراتيجي المهم.
وتعد هذه اللجنة بمثابة "جهاز إداري بديل" يسهم بشكل محدود في تبادل الآراء والمستجدات بين الأجهزة المخابراتية، إلا أن ذلك لا يشمل وضع خطة عمل مشتركة بين جميع الأجهزة، كما أنه لم يعتد تشكيل لجان مشتركة للتنسيق في العمليات المختلفة، إضافة إلى أن توصياته السابقة مثال "إنشاء مدرسة لتدريس العلوم المخابراتية" لم تخرج لحيز التنفيذ.
3 ـ تعاون محدود بين الهيئات التنفيذية: والذي قاد لتنفيذ عمليات مشتركة، اتسمت بالمهارة العالية، لكنها كانت محدودة في حجمها؛ إذ أنها كانت متأثرة بالأساس بالمصالح المشتركة للأجهزة المخابراتية بشكل عام، ولم تكن نابعة من وجود إدارة مركزية للتنسيق، وأحيانا ما تكون محدودة من جانب "رؤساء الأجهزة" أنفسهم؛ لأن لطبيعة العلاقات الشخصية بين رؤساء الأجهزة تأثيراً كبيراً على حجم التعاون، خاصة في ظل الصعوبات التي تواجه رؤساء هذه الأجهزة للتوصل لتفاهمات مشتركة.
4 ـ تعاون شامل وأساسي في مجال المعلومات الاستخباراتية: ومع ذلك لا يوجد تعاون فعلي في مجال المعلومات الفعالة، مثل استخلاص العبر الفعالة من العمليات التي تنفذ.
5 ـ وثيقة الموافقة على تقسيم مسئوليات ومهام المخابرات: وهذه الوثيقة تعد ثمرة تعاون مشترك بين أجهزة المخابرات، التي وافقت عليها لجنة رؤساء الأجهزة المخابراتية، ووزير الدفاع، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "أريل شارون" في عام 2005. ولهذه الوثيقة أهمية بالغة، نظراً لمساهمتها المحدودة في مجال التعاون المشترك في ظل غياب جهاز إداري موحد.
6ـ وثيقة تحديد الأهداف المهمة: وتحدد هذه الوثيقة الموضوعات الأساسية التي يجب على المخابرات الإسرائيلية متابعتها باهتمام، وفقاً لجدول الأولويات، وعلى مدار عام كامل، وتقدم هذه الوثيقة- التي يقوم بإعدادها "أمان" -للتصديق عليها من جانب المستوى السياسي، إذ أنها تعكس أهم مجالات عمل المخابرات، لكن مساهمتها "هامشية"، لكونها تخضع للكثير من التفسيرات، وبسبب غياب أجهزة إدارية توحد عمل المخابرات.
7ـ عمل دورة تدريبية مشتركة للمستويات المختلفة في الأجهزة المخابراتية، بهدف تبادل الخبرات والمهارات.
8ـ موقع تذكاري وتراثي للمخابرات: وهدفه تجميع والتعاون بين موظفين غالبيتهم ممن عمل سابقاً في الأجهزة المخابراتية. ويخلص هذا الجزء من الدراسة إلى أن المخابرات الإسرائيلية تعد عنصراً مهمًّا للغاية في المنظومة الأمنية، وفي منظومة الشئون الخارجية الإسرائيلية، فهي ليست جهة تقوم بتوفير معلومات ضرورية وحسب، بل إنها عنصر فعال للغاية في تنفيذ المهام السرية، وإكمال عمليات تخص القوات المسلحة ووزارة الخارجية والشرطة الإسرائيلية، بهدف الدفاع عن إسرائيل، وتحقيق الأهداف القومية العليا.
وعلى الرغم من أهمية الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية، إلا أنها ذات بناء إداري "هش" وليس لها خطة عمل شاملة، ولا ميزانية عامة، أو جهاز رقابي واحد، كما أن حجم التعاون بينها يعد "جزئيا" ولا يتسم بالتنظيم والتحديد، إذ إنه يتغير من فترة لأخرى، ويتأثر إلى حد كبير بالعلاقات الشخصية لرؤساء الأجهزة الاستخباراتية المختلفة.
ويبدو أنه في ظل غياب جهاز مركزي واحد ينظم عمليات عدة هيئات تعمل في نفس المجال، فإن ذلك يضفي نوعًا من الضبابية والتباين بين عمل الأجهزة المختلفة، فكلما زاد عمل الأجهزة المخابراتية في الشئون "البروتوكولوية" وسعت لتوسيع العمل في مجالات أخرى، فإنها تقلل من حجم المرونة فيما بينها، وتزيد من حجم الاحتكاكات بين أجهزة المخابرات المختلفة.
وتوصل هذا الجزء من الدراسة أيضاً، إلى استنتاج مهم مفاده، أن "الصعوبة" التي اعترت التعاون بين أجهزة المخابرات ترتبط بشكل كبير بحالة عدم الوضوح النابعة من مشاكل أساسية في المنظومة الأمنية القومية الإسرائيلية بشكل عام، والتي تتلخص في:
أ - غياب جهاز موحد يترجم مفهوم الأمن القومي الإستراتيجي الإسرائيلي، ويعمل على تنفيذه، بواسطة كل قوات المنظومة الأمنية الإسرائيلية (الجيش، ووزارة الخارجية، والشاباك، والموساد، والشرطة).
ب- عدم الوضوح فيما يتعلق بصلاحيات المسئولين السياسيين عن الأمن القومي الإسرائيلي.
****
الجزء الثاني:
يؤرخ هذا الجزء من الدراسة لأنشطة وتجارب المخابرات الإسرائيلية التي ارتبطت بشكل عام بالحروب والمواجهات العسكرية التي خاضتها إسرائيل، بالإضافة إلى الأعمال العدائية التي شُنت ضد اليهود في الخارج، أو ضد المواطنين الإسرائيليين في داخل إسرائيل.
وتستعرض تطور أنشطة ومهام المخابرات تاريخياً، والهيئات والوحدات التي استحدثت لتتلاءم مع الظرف التاريخي والاحتياجات الأمنية والإستراتيجية التي تطرأ وفق المتغيرات والتحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل في كل فترة، واستخلاص الدروس المستفادة من هذه "التجربة العملية".
أولاً: مرحلة التأسيس
الأيام الأولى قبل قيام الدولة
حتى نشوب حرب عام 1948 كان هناك ما يعرف باسم "مخابرات المستوطنات"، وكانت تتكون من منظمتين أساسيتين، الأولى تعرف بـ"القسم السياسي للوكالة اليهودية"، والذي تأثر في أعماله وأنشطته ومبناه الإداري بالمخابرات البريطانية. ومع إقامة الدولة تم دمج هذا القسم في وزارة الخارجية، على غرار ما حدث في المخابرات البريطانية.
وتمحورت أنشطة هذا القسم حول: العلاقات بين الفلسطينيين والدول المجاورة، والعلاقات بين الدول العربية والدول العظمى، والعلاقات العربية– العربية، والتطورات الداخلية في الدول العربية التي كان لها تأثير على دولة إسرائيل (فلسطين). كما عمل هذا القسم على تجميع معلومات عامة، أمنية وسياسية، واهتم بنسج علاقات مع عناصر استخباراتية غربية، وشن عمليات تخريبية تهدف لعرقلة الأعمال العدائية، وراقب هذا القسم العمليات الاستخباراتية الأجنبية في فلسطين.
أما المنظمة الثانية، فكانت "هيئة المعلومات لمنظمة الهاجاناه العسكرية" التي كانت النواة الأولى والأساسية للجيش الإسرائيلي، وتركزت أنشطتها حول الجبهة الداخلية، وعرب إسرائيل، والبريطانيين والبلدان العربية. وقامت الهيئة بتجنيد شبكات من المتطوعين والمتعاونين. ومع إنشاء الجيش الإسرائيلي تفككت هذه الهيئة واستخدمت وحداتها المختلفة لتشكيل هيئة استخباراتية عسكرية داخل الجيش.
وخلال أواسط عام 1948، وفي ذروة اشتعال حرب النكبة، شكلت المخابرات الهيئات التالية:
أ- هيئة المخابرات في الجيش، والتي تحولت في يونيو 1949 إلى قسم استخباراتي في شعبة العمليات التنفيذية بالجيش. وفي نوفمبر 1949 تم تشكيل سلاح المخابرات كإطار مهني خاص لعموم رجال المخابرات بالجيش. ب- قسم سياسي في وزارة الخارجية خاص بالأنشطة الاستخباراتية في الخارج.
ت- هيئة المعلومات الداخلية، وتختص بالأمن الداخلي، وخاصة إحباط المؤامرات السياسية والعمليات الإرهابية، وتحولت الهيئة فيما بعد إلى جهاز الشاباك الذي أنشئ في فبراير 1949.
وفي نيسان/أبريل 1949 تشكلت "لجنة التنسيق بين الهيئات العليا" برئاسة "رأوبين شيلواح"، أمين سر رئيس الوزراء "بن جوريون". وتكون أعضاء هذه اللجنة من رؤساء الأقسام السياسية، والشاباك، والمخابرات العسكرية، وشرطة إسرائيل. أما "المؤسسة المركزية لتركيز وتنسيق الخدمات المخابراتية والأمنية"، فقد تشكلت في 13 ديسمبر عام 1949، وترأسها "شيلواح" أيضا، وكان الهدف منها تطوير وتنسيق أنشطة المخابرات، وربما اختار "بن جوريون" رئيس واحد للمنظمتين لتفهمه لأهمية التنسيق بين أجهزة المخابرات والسيطرة المركزية عليها، إضافة إلى الدروس التي استفاد منها "بن جوريون" من الصراعات التي نشبت بين وزارة الخارجية والمخابرات العسكرية، لاسيما فيما يتعلق بتجميع المعلومات من الخارج.
وفي صيف عام 1949 تم إخراج الشاباك من التبعية لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي، وأصبح تابعاً لوزارة الدفاع، وكانت الأسباب وراء ذلك "بيروقراطية" في جانب منها، إذ أن الشاباك زعم أن الجيش لا يعطيه حقه فيما يتعلق بتخصيص الموارد.
سنوات الخمسينات
في آذار/مارس 1954 تحولت "المؤسسة المركزية لتركيز وتنسيق الخدمات الاستخباراتية والأمنية" إلى هيئة مستقلة بذاتها، ولم تعد تابعة لوزارة الخارجية، وأصبحت تابعة لرئيس الوزراء بصورة مباشرة. وفي المقابل حدث تغير جوهري في مهامها، حيث أنشئت هيئة مركزية مستقلة داخل هذه المؤسسة، منوطة بكل العمليات الاستخباراتية خارج البلاد، والتي مثلت فيما بعد الجزء الأساسي من جهاز "الموساد".
واشتملت الهيئة على ممثلين من جهازي الاستخبارات الآخرين، سواءً على مستوى القيادات العليا أو القيادات الميدانية. وبرزت في تلك الآونة شخصية "رأوبين شيلواح" الذي نجح في تطوير مجموعة من العلاقات الخارجية السرية، كما نجح في نسج علاقات خاصة مع أجهزة مخابرات غربية ومن بينها المخابرات المركزية الأمريكية.
وفي عام 1952 تم تعيين "إيسار هرئيل" رئيساً للموساد (كان يحمل اسم "المؤسسة المركزية للمخابرات" آنذاك).
وكان "هرئيل" كذلك مسئولاً أمام "بن جوريون" عن رئيس الشاباك، أي أنه كان المسئول المباشر عن جهازي المخابرات (الموساد والشاباك) في الفترة من 1952 حتى 1963. تحول قسم المخابرات، في 28 كانون اول/ديسمبر 1953، إلى شعبة في هيئة أركان الجيش، والتي تحولت إلى جهاز أمان (المخابرات العسكرية الإسرائيلية)، وتمثلت أهم الاعتبارات الأساسية وراء هذه الخطوة في طبيعة عمل هذه الهيئة المتعلقة بالمجال السياسي؛ ما يحتم ربطها مباشرة برئيس الأركان ووزير الدفاع، ومن ثم تأسس "أمان" كأكبر هيئة استخباراتية مركزية في إسرائيل في مجال جمع المعلومات والبحث الاستخباراتي، كما تعززت مكانته نتيجة للتطورات التي شهدها كهيئة كبيرة في مجال جمع المعلومات الاستخباراتية "التكنولوجية". وظهرت في تلك الآونة أيضا أنشطة "أمان" في مجال العمليات القتالية السرية، التي كان لها أيضا أهدافا سياسية، وتركزت على التسلل سراً إلى مناطق العدو بواسطة مجموعة من المقاتلين أو العملاء اليهود بغرض جمع معلومات استخباراتية أو القتال سراً.
ومع ذلك، فقد شهد العام 1954 سلسلة من الإخفاقات الخطيرة في أنشطة "أمان"، ويمكن رصد بعض هذه الإخفاقات في:
أ- عملية "الصفقة الفاسدة" التي تم خلالها القبض على مجموعة يهودية لـ"أمان" نشطت داخل مصر بهدف تنفيذ عمليات تخريبية، وذك للإيحاء بوجود حالة "من عدم الاستقرار" في مصر، بشكل يدفع البريطانيين الذين كانوا على وشك الخروج من مصر إلى البقاء فيها، وبهذا يتم تأمين حرية العمل البحري الإسرائيلي في قناة السويس. غير أن فشل العملية أدى إلى موجة عاصفة من الغضب في الأوساط السياسية الإسرائيلية لسنوات عديدة، وكان لها الكثير من الآثار السلبية للغاية على العلاقة بين "أمان" وصناع القرار في إسرائيل.
ب- اعتقال رجل "أمان" العقيد "ميكس بينت" في مصر، وذلك في أعقاب الاتصالات التي أجراها مع خلية "الصفقة الفاسدة"، على الرغم من أن مهامه لم تكن مرتبطة بها. وكان "بينت" يعمل في مجال جمع المعلومات الاستخباراتية في مصر تحت غطاء رجل أعمال ألماني، ونجح في إحداث اختراق داخل الطبقة العليا في مصر، وقام بتوفير مجموعة من المعلومات المهمة للمخابرات الإسرائيلية. وبرغم قرب أنشطته من أنشطة "إيلي كوهين" في سوريا، إلا أن اسمه لم يكن شائعا بين الجمهور في إسرائيل.
ت- القبض على خلية مقاتلي الجيش الإسرائيلي (من بينهم "أوري إيلان" مقاتل وحدة "جولاني") في سوريا، وهي خلية عملت في مجال جمع المعلومات الاستخباراتية لصالح " أمان"، علاوة على تقوية منشآت "التنصت" في هضبة الجولان. وفي ضوء هذه الإخفاقات، قام بن غوريون في عام 1957، بتكليف شاؤول أفيغور بإعادة فحص أنشطة أجهزة المخابرات، بهدف وقف سلسلة الإخفاقات وتفعيل عمل هذه الأجهزة. وقدم أفيغور تقريراً إلى بن غوريون شرح فيه الوضع العام للمخابرات، كالتالي:
1. يعد إشراف رئيس الوزراء على جميع أجهزة المخابرات وضعاً غير سليم أو مفيد بسبب مهامه الكثيرة الأخرى وضغوط العمل الملقاة على عاتقه، وبالتالي لا يكفي رئيس الوزراء وحده للقيام بدور المنسق بين أجهزة المخابرات، خاصة وأن العلاقات بين جهازي أمان والموساد غير واضحة، وغير حميمة أيضا، وعدم تحسنها سيسبب مشاكل بالدولة.
2. عدم استخدام الميزات النسبية، فأكثر من مرة تقع حوادث عبثية من قبيل بذل الكثير من الجهود واستخدام أموال كثيرة من أجل شراء معدات أو مواد تباع علنا في محلات الكتب. 3. وجود عدد من الضباط والقيادات غير المؤهلة، التي لا تقوم بالحفاظ على أسرار العمل الاستخباراتي.
4. سعي كل جهاز للخروج عن مجال عمله ومهامه التي حددت له، واقتحام مجالات عمل أخرى.
5. أهمية لجنة رؤساء الأجهزة والاجتماعات الأخرى التي تعقد، بهدف تبادل الآراء، على الرغم من أنها لا تقدم حلا للمشاكل الرئيسية.
6. لا تقوم المؤسسة المركزية للمخابرات بدورها المنوط بها، سواء لانعدام الصلاحيات أو لأسباب أخرى.
7. مشاكل نابعة من التقصير في العلاقات بين أمان والشاباك، مثل العقبات التنفيذية النابعة من غياب التنسيق، وغياب التعاون الكامل في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية، فضلا عن غياب التنسيق المطلوب مع أجهزة مخابرات غربية.
8. عدم الوضوح فيما يتعلق بالجهة التابع لها جهاز الشاباك. وبناء على ما سبق، أوصى أفيغور بتشكيل "مؤسسة مركزية" جديدة، تكون مهمتها إدارة أجهزة المخابرات بشكل مركز، إضافة إلى:
ـ تحديد الوجهة العامة لعمل جميع الأجهزة.
ـ تحديد مجالات عمل ومهام كل جهاز على حدة.
ـ منع حالات التضارب بين الأجهزة وسد الفجوات فيما بينها.
ـ تحديد أجندة الأولويات فيما يتعلق بالمهام الاستخباراتية.
ـ اقتراح أنشطة جديدة لأجهزة المخابرات.
ـ الإشراف على التوازن بين ميزانيات الأجهزة المختلفة وفق حجم المهام. التنسيق بين أجهزة المخابرات.
ـ الإشراف على أجهزة المخابرات بهدف منع الإخفاقات.
ـ الإشراف على إخراج المعلومات الاستخباراتية للمحتاجين إليها، وترشيد هذا الأمر.
ـ أن يكون رئيس المؤسسة المركزية تابعا مباشرة لرئيس الوزراء، بموافقة كل من وزير الدفاع ووزير الخارجية.
ـ إحداث حالة من "الشفافية" في العلاقات بين رؤساء الأجهزة.
ـ إبراز تبعية الشاباك لرئيس الوزراء، ومنح الشاباك نوع من أنواع الاستقلالية القانونية، من أجل منع التعقيدات الشكلية والقانونية في عمله، ومن أجل التسهيل عليه للقيام بمهامه.
ـ الحفاظ على أساس من العلاقات الخارجية مع الأجهزة المخابراتية الغربية تقوم بها جهة واحدة وهي "الموساد"، وبالتعاون مع كل من الشاباك ووزارة الخارجية لكن بشكل محدود، مع احتفاظ رئيس الوزراء بحقه لتحديد التوجهات العامة فيما يتعلق بهذا المجال.
وبشكل عام، كانت سنوات الخمسينات من القرن الماضي بمثابة سنوات "تأسيسية" لأجهزة المخابرات الإسرائيلية، حيث تم إرساء مجموعة من المبادئ والإجراءات لا تزال تؤثر عليها حتى الآن، ويتمثل أهمها فيما يلي:
أ- انتقال تبعية أجهزة المخابرات "المدنية" لمكتب رئيس الوزراء: فأجهزة المخابرات الإسرائيلية التي تشكلت منذ بدايتها وفق نموذج المخابرات البريطانية، القائم على أن كل أجهزة المخابرات تكون تابعة لوزارات مختلفة في الحكومة قد تغير وضعها، ليخرج الموساد من تبعيته لوزارة الخارجية، ويخرج الشاباك من تبعيته لوزارة الدفاع، ويتحولا إلى هيئتين مستقلتين تابعتين لرئيس الوزراء.
ب- تقسيم مسئوليات الأجهزة الاستخباراتية على أساس "جغرافي": فكل العمليات خارج إسرائيل تم إسنادها إلى الموساد، أما العمليات داخل إسرائيل فتم إسنادها إلى الشاباك، واضطلع "أمان" بالعمليات في الدول ذات الحدود مع إسرائيل، وقد ساهم هذا التقسيم في تنظيم عمليات أجهزة المخابرات في السنوات التالية، وأصبح اليوم أيضا أحد الأسس الرئيسية المنظمة لعمل المخابرات الإسرائيلية.
ثانياً: مرحلة تحقيق الذات
سنوات الستينات
شهدت هذه الفترة العديد من القضايا التي واجهت أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وتمثل أهمها في الآتي:
• "قضية روتام": حيث فوجئ "أمان" في شباط/ فبراير 1960 من خلال صور جوية قام بالتقاطها، بتدفق قوات مصرية كثيفة إلى سيناء، مع مئات الدبابات التي عبرت سراً قناة السويس ونُشرت في أماكن مختلفة على الضفة الشرقية للقناة، كل ذلك بدون وجود معلومات مسبقة لدى "أمان" بذلك. وعلى الفور قرر المجلس الأمني الإسرائيلي المصغر إعلان حالة الطوارئ، والتي اشتملت على تجنيد قوات الاحتياط.
وكان الدرس المستفاد من هذه المهمة، هو الأهمية العظمى لوجود معلومات استخباراتية مبكرة عن تحركات العدو للحرب، وإدراك أنه من غير الممكن الاعتماد فقط على "الصور الجوية" كمصدر فعال للمعلومات التحذيرية، وبسب ذلك قامت المخابرات الإسرائيلية بتعزيز منظومة التنصت.
• "اعتقال أيخمان": نجح الموساد في ايار/مايو من العام 1960 في اعتقال المسئول النازي "أيخمان" في الأرجنتين، وتم نقله لإسرائيل ومحاكمته ثم إعدامه. وقد جسدت هذه العملية، التي أشرف عليها رئيس الموساد "إيسار هرئيل" بنفسه أهمية المخابرات كذراع طولى لإسرائيل في الخارج. • "قضية العلماء الألمان" في عام 1962": في هذا العام احتدمت الخلافات داخل أجهزة المخابرات الإسرائيلية بسبب الخلاف بين رئيس الموساد "إيسار هرئيس" و"مائير عميت" رئيس "أمان" حول معلومات حصل عليها الموساد باشتراك علماء ألمان في تطوير سلاح دمار شامل في مصر، في حين رفض "أمان" صحة هذه المعلومات. وقد أيد "بن جوريون" رؤية "أمان"، وأصدر تعليماته لـ"هرئيل إيسار" بالتراجع عن شن عمليات ضد العلماء الألمان العاملين في مصر، وقد تأكدت صحة رؤية أمان بعدما تم التأكد من عدم وجود مثل هذا السلاح في مصر.
• فترة "التعاون المثمر" بين أمان والموساد: في أعقاب استقالة "هرئيل" تم تعيين "مائير عاميت" رئيسا للموساد في 1963، بجانب منصبه رئيساً لـ"أمان"، ولمدة عام كامل تولى "عاميت" المنصبين، وذلك بالتعاون مع " أهارون ياريف" الذي خلفه في رئاسة "أمان".
وكانت هذه الفترة "مثمرة" للغاية فيما يتعلق بالتعاون بين المنظمات الاستخباراتية في إسرائيل، حيث تم توحيد العمليات التنفيذية، وقام "أمان" بنقل إحدى وحداته التنفيذية إلى الموساد بهدف منع التضارب، وتم نقل مهمة تشغيل الجاسوس الإسرائيلي الشهير (إيلي كوهين) من "أمان" إلى "الموساد".
• لجنة" "يادين- شيريف": في عام 1963، شكل "بن جوريون" هذه اللجنة لفحص أجهزة المخابرات، وكان السبب وراء ذلك رغبته في تنظيم المخابرات وتجهيزها لمن سيخلفه في منصبه، خاصة وأن رئيس الوزراء الذي سيأتي بعده لن يتولى، في الغالب، منصب وزير الدفاع. وكان الافتراض السائد حينها أن "رئيس الوزراء القادم يجب أن تكون لديه صورة كاملة لأنشطة كل الأجهزة السرية في الدولة"، وبالتالي أوصت اللجنة بتعيين "مستشار لشئون المخابرات"، تكون مهمته مساعدة رئيس الوزراء لمتابعة الأعمال التنفيذية التي تقوم بها الأجهزة السرية في الدولة.
• إعدام "إيلي كوهين": في 18 ايار/مايو 1965، تم إعدام إيلي كوهين في دمشق، والذي تميز بشكل كبير من الناحية المهنية في مجال عمله، وتمكن من اختراق النخبة الحاكمة في سوريا، ووفر معلومات مهمة وأمينة للمخابرات الإسرائيلية. وقبل الإمساك به، كان قد ألقي القبض على "شوليه كوهين" في لبنان في عام 1961، والتي كانت مهمتها التجسس وتهجير اليهود منذ عام 1947، غير أنها عادت إلى إسرائيل في عام 1974 في إطار صفقة تبادل أسرى مع لبنان.
• حرب حزيران/يونيو 1967: كانت الحرب ونتائجها وتداعياتها (الحدود الجديدة لإسرائيل، وتوسيع انتشار الجيش) علامة مميزة في تطور عمل المخابرات الإسرائيلية؛ فالمخابرات العسكرية تحديداً قامت بتوسيع أنشطتها، كما أن المخابرات (التنصتية) زادت بشكل كبير واحتلت مكاناً مركزياً غير مسبوق في مجال جمع المعلومات، حينما قام "أمان" برصد المكالمات التليفونية اللاسلكية التي جرت يوم 6 حزيران/يونيو عام 1967 بين الرئيس المصري "جمال عبد الناصر" و"حسين" ملك الأردن؛ إذ أن رصد المكالمة أحبط التجهيزات التي كان ينوي الزعيمان اتخاذها لإظهار تدخل أمريكي وبريطاني في الهجوم على الأراضي العربية لصالح إسرائيل، وساعدت بشكل كبير في بلورة صورة حسنة عن المخابرات الإسرائيلية. كما كان لنتائج حرب الأيام الستة الكثير من الآثار الجيدة على الشاباك، الذي قام بنشر عملائه في الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان من أجل منع الأعمال التخريبية والعدائية التي من الممكن أن تنطلق منها.
وبناء على سبق، حدثت انطلاقة في أواسط أعوام الستينات في البناء التنظيمي لعملية جمع المعلومات (التنصت) في "أمان"، وتمثلت الأسباب الكامنة وراء ذلك في:
أ- إعطاء أولوية كبيرة لعمليات جمع المعلومات داخل إسرائيل من خلال استخدام التنصت، عقب وجود الكثير من أوجه التقصير في استخدام الأشخاص.
ب- التطور في مجال التكنولوجيا ووسائل الاتصال.
ج- أهمية توافر القدرات اللازمة لتوفير معلومات حقيقية في أوقات مناسبة، وغير مرتبطة بنوعية المخابرات التوقعية مثل التصوير من الجو.
د- تزايد توجهات استخدام المخابرات التنصتية التي ميزت الأجهزة المخابراتية الغربية.