كانت أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي تخيم على المنطقة
اشتهر الموساد بعملياته الاستخباراتية عبر العالم، خاصة ضد العرب والناشطين الفلسطينيين، إلى حد أن البعض جعل منه أسطورة الجهاز الذي لا يُقهر، والحال أن العمليات التي يقوم بها الجهاز بدعوى «مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين» تشكل في الحقيقة نوعا من الإرهاب الدولي المكشوف. آخر فضيحة في هذا الاتجاه هي فضيحة انكشاف جريمة اغتيال القيادي في حماس، محمود المبحوح، بدبي، على يد كومندو من الموساد، وقبلها كانت عمليات استهدفت أبو جهاد، ومقاتلي «أيلول الأسود» والنازيين الفارين إلى أمريكا الجنوبية، والمفاعل النووي العراقي واختطاف طائرة حربية عراقية... الحلقات التي ننشرها عن عمليات الموساد في هذا الركن، ليست تمجيدا للجهاز ولا تزكية لعملياته الإرهابية بقدر ما هي استجلاء لعالم الاستخبارات الغريب، الذي تغيب فيه الأخلاق وتتقوى فيه المصالح. الحلقات مقتبسة من كتاب «التاريخ السري للموساد- من 1951 إلى اليوم-» لمؤلفه غوردن توماس. إلا أن توماس لم يكن محايدا في تحريره ل «تاريخ» الموساد، بل يشعر القارئ بأنه يميل إلى تبني الأطروحة الإسرائيلية حول «الفلسطينيين أو العرب الإرهابيين» لأن الكثير من التفاصيل استقاها من مصادر إسرائيلية ومن أشخاص تلوثت أيديهم بدم من اغتالهم الموساد ذات زمن.
غير بعيد عن فندق نورفولك في نيروبي، يقع ال «وازيس كلوب»، الذي ظل لوقت طويل يشكل مكانا راقيا للتسلية والارتخاء لعدد كبير من رجال الأعمال الكينيين. ومنذ العام 1964، صار النادي يستقبل زبناء من نوع ثان. فهم إما صينيون أو روس أو شخصيات قادمة من بلدان حوض البحر المتوسط. هؤلاء لا يأتون إلى النادي لأجل المتعة الجنسية أو شرب النبيذ، بل لأجل القيام بمهام سرية استخباراتية لفائدة أجهزة تحاول إيجاد موطئ قدم لها في ساحة الصراع الاستخباراتي بإفريقيا الوسطى، التي ظلت حكرا على جهاز MI-6 البريطاني. وأبرز الأجهزة الثلاثة في هذا الصراع هي ال CSIS الصيني، وال KGB الروسي والموساد. كل جهاز له أهدافه الخاصة ويسعى إلى زرع المنافسة وسبل الصراع بين الأجهزة الأخرى.
كان الموساد يتوفر على 12 عميلا محليا متفرقين على طول خط الاستواء، من دار السلام على المحيط الهندي إلى فريتاون على الأطلسي. كلهم يملكون عددا كبيرا من جوازات سفر مزورة، ومدربين تدريبا خاصا، يشمل كذلك القواعد الأولى للعلاجات الطبية المستعجلة لاستعمالها عند الحاجة.
كان الموساد يخشى من أن يتحول النفوذ الكوبي في المنطقة إلى خطر على الدولة العبرية بعد أن بدأ كاسترو يصدر الثورة إلى إفريقيا، ويدرب المحاربين المحليين، بينما دخل الصينيون على الخط. لكن الإسرائيليين لم يكونوا يرغبون في الدخول في مواجهة مفتوحة مع أي جهة، فاكتفت بتوصية عملائها المحليين بتتبع الأمور من بعيد فقط. كما قام مدير الموساد، مائير عميت بتعزيز شبكته الإفريقية بعملاء ال «كيدون» وتحديد أهداف جديدة على الأرض الإفريقية تتمثل في زرع الفتنة وقطع العلاقة بين الروس ومضيفيهم الأفارقة، وبين ال «كا جي بي» وال «سي إس إي إس» الصيني، وقتل الناشطين العرب والاقتراب من الثوريين الأفارقة من خلال تقديم الوعود بمساعدتهم عند الحاجة على اكتساب شرعية سياسية حقيقية بدل حرب العصابات. مقابل ذلك، لا تطلب الدولة العبرية إلا شيئا واحدا وهو أن لا تهاجمها الحركات الثورية المحلية.
في خلال ذلك، كان نادي وازيس يحتضن كل ليلة لقاءات مختلف عناصر الاستخبارات، وأحاديثهم عن عمليات قام بها هذا الطرف ضد الآخر. أحاديث عن فخ نصب لعميل صيني، وأخرى عن مقتل عميل روسي في سريره... وكل طرف كان يسارع إلى اتهام الآخر بمسؤوليته فيما يقع، بينما الموساد هو الفاعل الحقيقي.
كان مائير عميت يزود عناصره بكل ما يصله من معلومات حول جهاز الاستخبارات الصيني، القوي برصيده التاريخي الطويل. فتقليد التجسس في الصين يعود إلى ما يزيد عن 2500 سنة، إلا أنه تجدد وأصبح مسايرا للعصر بعد أن امتد إلى الولايات المتحدة وأوربا والشرق الأوسط وإفريقيا. التجديد شمل أيضا أنشطة أخرى تقوم بها شبكات التجسس من قبيل الاتجار السري في ترويج المخدرات وتبييض الأموال، خاصة أن نصف الإنتاج العالمي من الأفيون يأتي من الصين عبر المثلث الذهبي: التايلاند واللاوس وبيرمانيا. المخابرات الصينية تعمل، إذن، يدا في يد مع المثلث لتصدير المخدرات إلى الغرب. وتسخر أموال المخدرات لتمويل مختلف العمليات في إفريقيا. أما المسؤول الأول عن أنشطة الصينيين في إفريقيا فكان هو الكولونيل كاو لينغ الأسطوري، الذي كان يوسع أنشطته شمالا في اتجاه إثيوبيا واليمن الجنوبي ومصر. كما أنه كان يصرف الكثير من الأموال لرجاله للقيام بعمليات ضد إسرائيل من منطلق اعتباره إسرائيل دمية في يد الأمريكيين، وبالتالي فهي هدف شرعي لرجاله الذين يسميهم «مناضلي الحرية».
قرر مائير عميت، يوما، أنه حان الوقت للموساد لكي يواجه ال «سي إس آي إس» الصيني، فبدأ بالتخطيط لعملية تقضي بإفشال مؤامرة صينية كانت تهدف إلى قلب نظام هاستينغ باندا في الملاوي الموالي للغرب، قبل أن يخبر السلطات الكينية بالأهمية الحقيقية للشبكة الصينية المتواجدة على أراضيها. بعد ذلك، عبرت حكومة نيروبي عن امتنانها للموساد من خلال السماح لطائراتها باستعمال المجال الجوي في عملية مطار أنتيبه ضد المقاتلين الفلسطينيين الذين اختطفوا طائرة وهددوا بقتل رهائن يهود.
المعطيات التي كشف عنها عميت، أدت إلى إغلاق نادي وازيس قبل أن يُرحل زبناؤه الصينيون إلى الصين عبر رحلات دولية رغم الاحتجاجات الصينية. إلا أن المرحلين كانوا محظوظين، لأن بقية الصينيين، الذين ظلوا هناك، لقوا مصائر مأساوية مختلفة على يد عملاء الموساد. فقد تعقبوهم وألقوا بهم إلى السباع والنمور في الغابات الإفريقية.
وبقدر ما كان الصينيون يحاولون رد الضربات للإسرائيليين في بلدان أخرى، بقدر ما كان هؤلاء يبدون درجة أكبر من الصرامة والشدة. إذ تابع عملاء إسرائيل (الكيدون) ملاحقتهم للصينيين في كل مكان.
ففي غانا، قُتل عميل صيني على عتبة علبة ليلية هو وصديقته. في مالي، قُتل آخر في انفجار استهدف سيارته، في زنزيبار، أحد المعاقل التقليدية للمخابرات الصينية، شب حريق في عمارة يقيم فيها موظفو الاستخبارات الصينية. وخلال رحلة قادته إلى برازافيل بالكونغو، أفلت الكولونيل كاو لينغ، المسؤول الأول عن المخابرات الصينية في إفريقيا، من محاولة اغتيال كادت تنجح على يد الإسرائيليين بعد أن قرر تغيير سيارته في آخر لحظة، ليقضي سائقه فيها بعد انفجارها. وفي زمبيا، قبض عملاء الموساد على عميل صيني وربطوه إلى شجرة وتركوه للسباع.
وذهب الموساد إلى أبعد من هذا عندما استغل فرصة سفر رئيس غانا، كوامي نكروما الموالي للصين، إلى بكين، فأيقظ فتنة شعبية أدت إلى سقوط الحكومة وفك شبكة التجسس الصينية في البلاد.
طيلة ثلاث سنوات، شن الموساد حرب استنزاف ضد الصينيين في جميع أنحاء إفريقيا، وساد عند هذا الطرف كما الآخر مبدأ واحد هو قتل كل من يقع في يد الآخر. الصينيون بدورهم عندما قبضوا على عميل إسرائيلي في الكونغو، رموا به في بحيرة تعج بالتماسيح وصوروا احتضاره في المياه المتوحلة قبل أن يبعثوا بالصور إلى مدير الموساد. ورد الأخير، شخصيا، برمي العمارة التي يوجد بها مقر المخابرات الصينية بقذيفة صاروخية. قضى في العملية ثلاثة صينيين.
أخيرا، وبعد تدخل من الرئيس الزاييري موبوتو سيسيكو، عبر جهاز الاستخبارات الصيني عن رغبته في التوقف عن المواجهة والقتال، واقترح على الإسرائيليين إقامة تحالف بينهما لنسف التأثير الروسي على القارة الإفريقية. فالروس استطاعوا أن يؤسسوا لهم حضورا قويا في إفريقيا، بالتعاون مع الكوبيين، خلال فترة التطاحن الإسرائيلي الصيني.